لا يقتصر التراث الثقافي على المعالم التاريخية الأثرية والتحف الفنية، ليشمل التقاليد الشفوية، والممارسات الاجتماعية، والمعارف والمهارات الحرفية التقليدية، على غرار إعداد الأكلات الشعبية، والوصفات التي تعود إلى عصور قديمة
والتراث غير المادي كالمعارف المكتسبة في صناعة الخيز ، تتغير وتتطور وتزداد ثراء جيلا بعد جيل على غرار صناعة الخبز في صفاقس الذي كان يعد في المنازل و تصنعه المرأة بوسائلها الخاصة والذي يعتمد أساسا على “تشيش الخبز”من الشعير وسميد القمح مثل “المبسوط” والجرادق وكذلك الشواي واللفيف الذي يصنع في مخابز المدينة المنتشرة بكثرة في مختلف الأنهج والأزقة حيث يلغ عددها في أواسط القرن الماضي أكثر من 25
تاريخ الخبز في صفاقس
كانت صناعة الخبز كما ذكرنا مرتبطة بمادة بالشعير وكذلك الفارينة والسميد وكان توزيع هاتين المادتين في صفاقس والجنوب عامة يمر زمن الاستعمار بصعوبات كبيرة خاصة وأن إنتاج القمح في مناطق الجنوب يعد ضعيفا مقارنة بمناطق الوسط والشمال فضلا عن التوزيع الجغرافي للمطاحن التي كانت متواجدة بتونس ( الأفريكان وريسي) وسوسة ( غنام )
نظرا لهذه الصعوبات وفي فترة الحرب العالمية الأولى تم تكوين لجنة لتتكفل بجمع الفارينة والسميد وتوزيعها على أربعة مجموعات تتألف من أصحاب المخابز و وصانعي العجائن الغذائية والتجار بالتفصيل وصانعي الفطائر ويخصص النصيب الأكبر للمخابز
وكان المواطنون في قترات الأزمات يعانون من ارتفاع الأسعار وتفاوتها بين الجهات وكان الخبز يباع في صفاقس سنة 1920 ب فرنك وأربعين صنتيم بينما لا يتجاوز في تونس فرنك وعشرين صنتيم وذلك بسبب إضافة تكلفة النقل على سعر الخبزة
بخصوص وزن الخبزة تشير الوثائق التاريخية أن قرارا بلديا صدر سنة 1916 يفرض على بائعي الخبز توفير ميزان لكي يتم التأكد من أن وزن الخبرة الواحدة لا ينقص عن الكيلوغرام
ويؤكد المؤرخون أن عديد الاحتجاجات في صفاقس ارتبطت بالخبز على غرار إضراب أصحاب المخابز سنة 1918 مما أجبر سلطات الاحتلال إلى تسخير 3 جنود للعمل في مخبزة” شملة ” الكائنة بطريق ترياقة ( منزل شاكر حاليا )
يوجد بصفاقس أكثر من 20 نوعا من الخبز منها ما يطبخ بالشعير ذي الحضور القوي في المائدة الصفاقسية التقليدية منذ القديم باعتباره من الموروث الغذائي البربري. ويستخرج من الشعير قرابة عشرين أكلة أهمها الخبز ومنه ما يطبخ في المنزل “الجرادق” و ما يطبخ في الفرن “خبز كوشة”المنقسم الى نوعين : خبز قاعة وخبز طبق.
ويعتبر القمح من أرفع أنواع الحبوب ويفضلة البعض عن الشعير. والأكلات المستخرجة من القمح لها حضور قديم في صفاقس.على غرار المبسوط الذي يعد في المنزل على الطاجن
وكذلك خبز الطابونة، المعروف في ضواحي وأرياف صفاقس الذي يطهي في فرن من الطين بعد أن يتم تغذية الفرن عبر إحراق أعواد وأخشاب الأشجار حتى يسخن جيدا ثم تحضر العجينة المكونة من السميد والماء وتشكل الأخيرة بشكل دوائر وتوضع علي أحد جوانب الفرن الداخلية حتى تنضج
توجد كذلك عدة أنواع من الخبز التي تصنع في الكوشة كاللفيف وخبز طليان و خبز نوارة و خبز الشواي و خبز القاعة و وغيرها
وتمتاز جزر قرقنة بخبز ” القليط ” وهوخبز الصيادين في الأرخبيل ذو الأصول الإيطالية (la galette)، وقد عرفه صيادو الجزيرة من قديم الزمان عند التقائهم صيادي إيطاليا الذين يقتربون من سواحل الأرخبيل لاصطياد الإسفنج، وكانوا يقضون مدة طويلة في عرض البحر تصل حتى شهرين، ويتخذون من الخبز الصلب مؤونة لأنه لا يتعفن بسرعة، ودوم صلاحيته إلى أشهر.
ويحضر خبز العيد في المناسبات الدينية و يتميز بكبر حجمه لكي يلبي حاجات العائلة طوال عطلة العيد
ويعود هذا النوع من الخبز لفترة الأندلسيين فعند هروب المسلمين من الأندلس حملوا معهم كل ثرواتهم و قد قاموا بإخفاء النقود و المجوهرات في الخبز الكبير
كان للكوشة عديد الخدمات غير صناعة الخبز مثل طحن الحبوب وطهي الحلويات وكانت الكوشة لا تغيب عن أي حي أو نهج بالمدينة العتيقة
وكان الكواش أو صاحب الكوشة يعتمد على عدة أصناف من العمال من بينهم الطراح الذي يعتبر همزة الوصل مع المنازل وعادة ما يكون الأصغر سنا من بين العمال نظرا لطبيعة عمله التي تفرض تحوله إلى البيوت العامرة بالنساء وكانت أجرة الطراح تتمثل في خبزة صغيرة تسمى” البية يقدمها له صاحب المنزل المستفيد من خدمته
و كان لكل عائلة علامة خاصة تميزها وترسمها أو تضعها فوق الخبزة فنجد الفولة و النقاط و الخطوط و و القاطع و المقطوع
أمثال شعبية عن الخبز
أطلق التونسي على الخبزة تسمية “النعمة/نعمة ربي” لتتجاوز معطى الضرورة الغذائية، لمصدر الشعور بالأمان وحظي الخبز في الأمثلة الشعبية التونسية بمكانة ربما لم تعرفها مكونات غذائية أخرى وقيل عنه الكثير من الأمثال الشعبية “
كسرة وماء والراس في السماء،
خبزنا مخبوز وزيتنا في الكوز،
ناكل خبزي ونقعد في عزي،
شد خبزتك واطلق عبستك
الخبز البايت ولا سفنج الشمايت
كل حد يقول خبزي سخون
المصادر المعتمدة
معجم المصطلحات و العادات و التقاليد للدكتور علي الزواري و يوسف الشرفي
د.سمير البرشاني أستاذ التاريخ بكلية الآداب بصفاقس
موقع زاهر كمون
موقع تاريخ صفاقس
محمد المنجة