تجمع كل أدبيات الدراسات البينية (Interdisciplinarité وبالإنجليزية Interdisciplinary) أنها بحوثٌ علميةٌ مُعمَّقةٌ وهي دراساتٌ تجمعُ بين النظرة التخصصية الدقيقة، والنظرة الموسوعية الشاملةِ، وتؤمنُ بالتكامل المعرفي بين كافة العلوم، وترى أن هذا التكامل بات ضرورةً مِنْ ضرورات المنهج العلمي النافع، في هذا العصر. ولا تقتصر الدراسات البينية على صِنْف من العلوم، دون آخر، بل يمكن اكتشافُها، وتوظيفها، بين كافة العلوم الإنسانية، والكونية، والتطبيقية.

ومن خلال الدراسات البينيّة وقع تقليصِ الهوَّةِ بينَ وشائجِ العلومِ؛ فعلمُ النفس تمَّ تسخيرُه في اكتشافِ علاجاتٍ لبعضٍ مِنْ أسبابِ الجريمةِ، وعلومُ الحاسوبِ باتتْ تخدمُ علوم اللسانياتِ (اللغاتِ واللهجاتِ) خِدْماتٍ جوهريةً لا غَناءَ عنها، وعلمُ الهندسةِ الوراثية أصبح جزءًا لا يتجزأُ مِنَ العلومِ الطبيةِ؛ بكافَّةِ فروعِها، على حينْ أصبحَ علمُ الرياضياتِ مُكَوِّنًا أساسيًّا في كافةِ التطبيقاتِ الفيزيائيةِ، والصناعيةِ، والتقنيةِ. وقد اشتعل الجزء المتقدم من العالم بهذه الطريقة منذ نصف قرن!

إن إبستمولوجيا الدراسات البينية أصبحت تمثل لدينا اليوم انعطافة بالغة الأهمية في المنهجيات والأنظمة العلمية. ومن المنتظر أن تكون هذه الانعطافة إسهامًا معرفيًّا مرموقًا في تقدم العلوم، حيث ستلغى الحواجز بين الأقسام، والحدود بين التخصصات.

دمج التكنولوجيات الحديثة في برامج تثمين التراث

ضمن فعالية الايام المفتوحة لسنة 2021، خلال شهر ديسمبر الماضي بالمعهد العالي للإعلامية والملتميديا بصفاقس وقع أمس 8 فيفري 2022 امضاء اتفاقية بين مديرة المعهد السيدة نادية بوعصيدة، والسيدة آمال حشانة المديرة العامة لوكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية. وقد أثث لهذه الفقرة ضمن البرنامج العام للتظاهرة أنيس الجديدي أستاذ مساعد، اختصاص إعـلاميّة، منسق الماجستير في تصميم الخبرة وتصميم الواجهة، ومنسق في مشروع التعاون الدولي للواقع الافتراضي، المعزز والمختلط.

لماذا هذه الاتفاقية؟ وما الدافع إليها؟

ستمكن هذه الاتفاقية من انفتاح الطلبة على قطاع الثقافة وبالتحديد مجال التراث بكل مكوناته من معالم اثرية وتاريخية وتراث ثقافي مادي وغير المادي أو اللامادي وإمكانية الاشتغال على هذا الموضوع الواسع والممتد في الزمان والمكان وفي الثراء. فالمشاريع الرقمية يمكن الاستفادة منها في ارشاد الزوار في المواقع الاثرية والمعالم التاريخية والمتاحف بتطبيقات إعلامية غنية بيداغوجيا كما يحصل في كبرى المتاحف العالمية وبعض المتاحف العربية مثل الامارات ومصر وقطر…ويمكن الاستفادة من هذه التطبيقات الإعلامية في زيارات افتراضية ووثائقيات تشتغل على نفس الموضوع، وغيره مثل المعمار العربي والإسلامي بكل مكوناته (من الأبواب والاعمدة والقبب والخشب إلى مربعات الخزف…) وجماليات الحروف العربية…

وتندرج هذه الاتفاقية ضمن حزمة من المشاريع الرقمية تقوم بها وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية لمزيد التعريف بمخزون تونس الحضاري والاثري والحفاظ على الموروث الثقافي وتثمينه باعتماد وتوظيف الإعلامية والتكنولوجيات الحديثة. والهدف ابتكار أساليب جديدة وعصرية في تسويق التراث باعتباره عنوان هوية ومصدر اعتزاز ودعامة استثمار للاقتصاد الثقافي الرقمي والصناعات الثقافية.

بادرة ذكية للانفتاح على “العلوم البينية ” Interdisciplinarité

عندما يفتح المعهد العالي للإعلامية والملتميديا هذا المسلك الذي تتقاطع فيه الإعلامية والملتميديا بالثقافة التراثية والتاريخية فهذا شكل من أشكال الجمع بين الدراسات البينية إذ لا يقنعُ الطلبة بالاكتفاء بالتخصّص الدقيق؛ منفردًا، بل يتوخَّون الكشفَ عن مناطق التخوم. ولا شك ان هذا المنعطف الهام في التكوين الجامعي يتطلب روزنامة من الزيارات الميدانية إلى المواقع الاثرية والمعالم التاريخية والمتاحف، وإلى ضرورة إثراء مكتبة المعهد بإصدارات وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية وغيرها، وإلى دعوة الطلبة لحضور الأنشطة والمعارض وغيرها للتشبع بمقومات المخزون الحضاري. وبالتالي تهيئة الطلبة إلى توظيف التكنولوجيات الحديثة للتجديد والاختراع والابداع في المجال الثقافي التراثي.

في الماضي، كانت المخرجات الرئيسية للبرامج الجامعية تتمثل في تخريج الطلاب من ذوي المعرفة، اليوم لا يعتبر تخريج الطلاب ذوي المعرفة كافيًا في العالم المهني. يجب أن يكون الطلاب مجهزين بعدد من المهارات مثل التفكير النقدي والتحليل، والقدرة على النقاش، والقدرة على العمل الجماعي، والقدرة على إيجاد واستيعاب المعارف الحديثة، ومعرفة مدى ارتباط المجالات المختلفة ببعضها البعض. وعلى سبيل المثال يحتاج الأطباء إلى العمل مع المهندسين، ويحتاج المهندسون المعماريون إلى العمل مع علماء البيئة، ولابد لمهندس الإعلامية والمختص في الملتميديا أن يتحدث مع الكيميائي والفيزيائي ورجل الأعمال وأساتذة العلوم الإنسانية والاجتماعية وإلى المؤرخ والمختص في التراث –لتجسيم بنود هذه الاتفاقية على سبيل المثال-وذلك لبناء معرفة منهجية وعلمية لدى الطالب، تقوم على ربط الظواهر وتكاملية المناهج وتداخل المعارف، والانخراط فيما أصبح يسمى بالعلوم البينية. إن ردم الهوة بين ما هو أكاديمي وصناعي وثقافي وعبور الفجوة بين الجامعة والمجتمع والثقافة خطوة عملاقة في تطوير التعليم، لأن من المهارات المكتسبة للعلوم البينية: الابتكار، وتحليل الروابط بين مجالات الدراسة المختلفة، والتفكير النقدي.

رضا القلال